حوار— هاجر مصطفى إسماعيل.
في الوقت الذي أصبحت فيه النماذج الهادفة نادرة، والقدوة الحقيقية غائبة خلف سِتار صناعة الوهم والتفاهة، يخرج من بين تلك الصفوف فتى أبى إلا أن يكون استثناءً في زمنٍ طغت فيه العادية والابتذال، لم يستسلم للقعود تحت وطأة الألم، بل صنع منه أملًا لنفسه وغيره.
في حوار اليوم تُلقي «زويليون» الضوء على ياسين علي صلاح، ذلك الطالب المصري الذي على حداثة سِنه ورغم محنته الشخصية المؤثرة، عزم على أن يجعل من فقده لإحدى عينينه بداية يُشاطر فيها من يعانون معاناتهم، مستنيرًا بتجربة جدته الراحلة -رحمها الله- مع مرض الزهايمر في ابتكار «سوارٍ ذكي» يخدم أصحاب هذا المرض وغيره.
هنا يشاركنا ياسين رحلته مع الابتكار، والتحديات التي واجهها، وأحلامه التي لا تزال تنمو، مؤمنًا بأن الشغف الحقيقي لا يحتاج إلا قلبًا صادقًا وعقلًا مُحبًا للعلم آملًا أن يغرس أثرًا طيبًا في نفوس من حوله.
ياسين البالغ من العمر سبعة عشر عامًا، والذي يدرس بالصف الثاني الثانوي، يخطو أول خطواته الحقيقية نحو مستقبل علمي واعد، ابن محافظة الأسكندرية والذي درس وترعرع فيها حتى حصل على منحة علمية تؤهله من الدراسة في مدرسة المتفوقين الثانوية بنين بعين شمس، وأشار أنه كان واحدًا من بين 96 طالبًا تقدموا لتلك المنحة على مستوى الجمهورية، حيث خضع لاختبارات دقيقة في العلوم والرياضيات واللغة الإنجليزية والقدرات الذهنية واجتازها بتفوق.
أكد ياسين على شغفه بالبحث العلمي والبرمجة وريادة الأعمال، وأوضح أنه مَثل مصر في مسابقات عدة دولية ومحلية، حصل على المركز الثاني على مستوى الجمهورية في مسابقة (UGRF) و (IEEE YESIST12) بالأكاديمية العربية، وجامعة النيل، كما شارك في مسابقة “المبتكر الصغير” بالقاهرة، وكان عضوًا نشطًا في نادي ريادة الأعمال. وأكد أنه كان أصغر مشارك في بعض هذه المسابقات، ما منحه دافعًا إضافيًا لتطوير نفسه.
وحينما سُئِلَ عن ماهية سواره قال: «هذا سوار ذكي يُطلق عليه (I’m here أو أنا هنا)، بدأت فعليًا في العمل عليه عام 2023، وهو مخصص لمرضى الزهايمر خاصة والأمراض المزمنة عامة كمرضى السُكر والقلب، ويوفر لهم جانبين: جانب الرعاية الصحية والرفاهية في آن واحد، ويُحسن حياتهم هم ومُرافقيهم». وأضاف: «الفكرة كانت تكمن في تطوير سوار ذكي يمكنه متابعة حالة المريض بشكل دقيق، بل ويعمل على تنبيه الأسرة عند حدوث أي تغير في حالته. كان السوار مزودًا بتقنية GPS لمتابعة مكان المريض إذا ضاع أو ابتعد عن مكانه المعتاد. كما كان يحتوي على مستشعرات لقياس معدل ضربات القلب ودرجة حرارة الجسم، وكان من الممكن ربط السوار بتطبيق على الهاتف المحمول لمتابعة كل هذه البيانات».
كما أوضح أن ابتكاره ليس مُجرد سوار فقط بل صندوق ذكي وحقيبة ذكية أيضًا.
وعن ما يميز سواره عن أي سوار عادي قال: «أنه منتج محلي، وقليل التكلفة، ويعمل على دمج أكثر من آداة في آداة واحدة، ويعمل على توفير الدعم لعدة فئات وليست فئة واحدة، وأضاف أنه يطور بعض الميزات الجديدة لأصحاب الأمراض الصدرية.
وحينما سُئِلَ لماذا مرضى الزهايمر بالذات؟ أجاب: «أنه مر بتجربة شخصية مع جدته رحمها الله ورأى كيف عانت من مرض الزهايمر، ومن هنا أُلهم فكرة سُواره، حيث دفعه مرض جدته للبحث عن هذا المرض واكتشف وقتها أن 47.5 مليون شخص حول العالم يعانون من مرض الزهايمر بحسب منظمة الصحة العالمية».
كشف ياسين عن جانب شخصي من رحلته حين تحدث عن الحادث الذي تعرض له في طفولته وأثر على إحدى عينيه. قال إن تلك المرحلة كانت من أصعب ما مر به، إذ واجه خلالها التنمر والاكتئاب والعزلة، لكنها شكّلت نقطة تحول في شخصيته ودفعته لاكتشاف ذاته. وأضاف: «خلال جائحة كورونا، اشتركت في مبادرة علمية، وكانت البداية الحقيقية لاكتشاف شغفي، خاصة في مجالات البرمجة والبحث العلمي».
وأردف بأن عائلته كانت أكبر داعم له لمواصلة العمل على ابتكاره، خاصة والده ووالدته وأخته، بالإضافة إلى الدكتورة بسنت فاروق، المسؤولة عن الموهوبين والتعلم الذكي بإدارة وسط التعليمية بمحافظة الإسكندرية، والتي أشرفت على الجانب العلمي في مشروعه، بينما تولى هو الجانب التقني من خلال التعلم الذاتي.
وعن الصعوبات التي واجهته في ملف البحث العلمي، صرّح بأن أبرزها كان ضعف الدعم الفني والمادي، وغياب الاستمرارية بعد انتهاء المسابقات. وأضاف: “أتمنى أن تتيح الجهات المعنية فرصًا حقيقية لاستكمال تنفيذ المشاريع المتميزة، سواء بدعم تقني أو فني، وليس فقط ماديًا”.
وأوضح أنه لم يُخضع ابتكاره لتجربة ميدانية على مرضى فعليين، لكنه أنجز نموذجًا أوليًا وجربه في بيئة محاكية للحصول على تعليقات وملاحظات، مراعيًا خصوصية المرضى. وأكد أن الابتكار مسجّل حاليًا كمحضر إيداع، لكنه لم يحصل بعد على براءة اختراع بعد؛ بسبب طول فترة الإجراءات، رغم تواصله المتكرر مع الجهات المختصة، ويتمنى أن تنتهي سريعًا ويحصل عليها.
وفيما يخص مستقبل سواره، قال ياسين: «إنه لا يسعى فقط لتحويل مشروعه إلى منتج تجاري، بل يتطلع إلى ما هو أبعد من ذلك، مشيرًا إلى أن خطوة التصنيع الفعلي مؤجلة لما بعد الثانوية العامة، إذ يولي حاليًا اهتمامه الأكبر للدراسة».
وأكد أن العالم الراحل أحمد زويل هو قدوته العلمية، مشددًا على أنه يتمنى أن يسير على خطاه ويترك أثرًا طيبًا يُحتذى به. قال: «أريد أن يتذكرني الناس بالخير، ليس فقط من خلال ابتكاري، بل من خلال أي عمل يخدم المجتمع وأن أكون قدوة صالحة للأجيال القادمة».
وفي رسالته للأجيال القادمة حثهم على حسن اختيار قدواتهم لتكون قدوات صالحة ذات مبادئ، ودعا أولياء الأمور إلى أن يمنحوا أبناءهم المساحة الكافية لاكتشاف شغفهم دون فرض مسارات محددة، مضيفًا: «ثقوا بأطفالكم كما فعل والديّ، وشجعوهم وامنحوهم الفرصة للتجربة للنهاية».
كما وَجَّه نصيحة للشباب الموهوبين قائلاً: «ستمرّون بفترات إحباط وفقدان شغف، وهذا طبيعي، لكن المهم أن تؤمنوا بقدراتكم، وتواصلوا المحاولة».
وفي ختام حديثه، أعرب ياسين عن أمنيته بأن تهتم المدارس المصرية أكثر بالأنشطة اللأكاديمية والمسابقات العلمية، موضحًا أن هذه الأنشطة تسهم في بناء الشخصية وتنمية الوعي المجتمعي والقدرة على التفكير النقدي، داعيًا إلى تغيير النظرة السلبية تجاهها، حيث يرى أن اختلاط الشخص بالمجتمع الخارجي مع التجربة والمحاولة هو ما يصقل عقله وفكره.


