الزراعة الذكية

“منقذ النخيل الإلكتروني” اختراع مصري يضع المبيدات في متحف الذاكرة

كتبت: هاجر مصطفى إسماعيل.

في الوقت الذي تتصدر فيه قضايا الأمن الغذائي أولويات المشهد، تبرز ابتكارات العلماء والمخترعين كحلول جادة في مواجهة التحديات البيئية والزراعية. وبينما تنتشر التحذيرات من آثار المبيدات على الصحة والبيئة، جاء المهندس المصري أحمد عبد الغني شريف بابتكار يُعد ثورة في مجال مكافحة الآفات الزراعية: “منقذ النخيل الإلكتروني”، جهاز بيولوجي يعالج نخيل التمر من أخطر آفاته دون استخدام أي مواد كيميائية، معتمدًا فقط على الطاقة الكهرومغناطيسية.

بداية الحكاية: إلهام منبثق من تأملات

لم تأتِ الفكرة من فراغ. فمنذ عام 1995، بدأت ملامح الاختراع تتشكل في ذهن المهندس أحمد عبدالغني، حين تأمل قدرات السمك الرعاش، -الذي استخدمه الفراعنة والرومان قديمًا لعلاج الأمراض العصبية، ويُنتج نبضات كهربائية للدفاع عن نفسه والتأثير على الكائنات المحيطة.- استلهم المهندس منه فكرة “العلاج بالمجال الكهرومغناطيسي”، ليبدأ مسيرة علمية امتدت لسنوات، جمع فيها بين دراسات الزراعة والهندسة والكهرباء الحيوية، حتى توصّل إلى النموذج الأولي للجهاز عام 2007.

آلية العمل: كهرباء صامتة تقضي على الآفات

يعتمد “منقذ النخيل الإلكتروني” على توليد مجال كهرومغناطيسي يتم تركيزه حول منطقة الإصابة بالنخلة عبر أربع أطراف تُثبّت على الجذع، اثنان في الأعلى واثنان في الأسفل. وخلال جلسة علاج لا تتجاوز 40 دقيقة، يتولى الجهاز تعطيل الجهاز العصبي للحشرة المستهدفة، مثل سوسة النخيل الحمراء وحفّار ساق النخيل وناخرات الأخشاب، عبر إصابة العصب مباشرة وشلّه فورًا، ما يؤدي إلى موت الآفة دون أي ضرر للنخلة أو للبيئة المحيطة.

ليس ذلك فقط، بل أثبت الجهاز فعالية عالية في القضاء على الفئران، والثعابين، ومستعمرات النمل الأبيض، باستخدام المجال الكهرومغناطيسي وحده، دون اللجوء لأي مبيدات أو مواد سامة، باعتبارها إحدى القوى الطبيعية الآمنة تمامًا على الإنسان والحيوان والنبات. وقد تمت معايرته بدقة بعد أكثر من 12 عامًا من التجارب العلمية.

التجربة خير برهان على كفاءته

تمت تجربة الجهاز على نطاق واسع في مصر والإمارات وعدة دول عربية، وعلى مختلف أنواع النخيل، وأثبت فعالية كبيرة دون تسجيل أي حالة عودة للإصابة، وهو ما يميّزه عن الأساليب التقليدية التي تعتمد على مبيدات سامة غالبًا ما تتسبب في مشكلات بيئية وصحية.

الجهاز قادر على معالجة نحو 16 نخلة يوميًا، ويُستهدف فقط النخيل المصاب، مما يقلل من الهدر في الوقت والموارد. ويكفي وجود 10 أجهزة لعلاج 1000 نخلة مصابة في مزرعة تضم 10 آلاف نخلة مثلًا. ومع هذه النتائج، بات من المنطقي أن تُنفى المبيدات السامة إلى متحف التاريخ والذاكرة، في ظل ذلك البديل المبتكر الذي يحمي النبات ويُحافظ على البيئة.

جهاز ذا تصميم عملي وميداني

يأتي الجهاز في صندوق مقاوم للصدمات، خفيف الوزن، سهل الحمل، ويتحمل ظروف الحقول من مطر ورمال. يمكن تشغيله عبر كهرباء 220 فولت أو بطارية سيارة، ويحتوي على مروحتين تبريد، مع أطراف بطول 10 أمتار لتسهيل التركيب على الأشجار.

بعد كل جلسة، تُغطّى منطقة الإصابة بالكبريت الزراعي ثم تُغلق بالطين، ما يحافظ على النخلة من أي عدوى ثانوية.

براءات وتكريمات: توثيق رسمي واعتراف علمي

سُجل الاختراع رسميًا في المنظمة العالمية للملكية الفكرية (ويبو) بجنيف في 28 مارس 2012، كما تم اعتماده لدى أكاديمية البحث العلمي، ومكتب الابتكار بالأزهر الشريف، الذي منحه دعمًا خاصًا، إلى جانب جمعية مصطفى محمود، بينما غابت باقي المؤسسات المعنية عن المشهد، وهو ما يفتح تساؤلات حول دور الدولة في دعم الابتكارات البيئية.

وقد كرّمه الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر، تقديرًا لابتكاره الذي يجمع بين الأصالة البيئية والحداثة التقنية.

عن التحديات فالطريق لم يكن مفروشًا بالورود

عانى المخترع من تجاهل مجتمعي ومؤسسي طويل، بل وسخرية في البداية ممن اعتبروا فكرته “جنونًا”. كما واجه صعوبات مادية في توفير مكوّنات الجهاز، فاضطر إلى العمل في ورش صناعية مجانًا لاكتساب الخبرة. وعلى الرغم من كونه خريج كلية الزراعة، تعمّق في الهندسة الكهربائية والكيمياء الحيوية للوصول إلى النتائج المثلى.

اختراعات أخرى غير المنقذ

لا يتوقف أحمد عبدالغني عند اختراعه الأوّل، فقد سجّل سابقًا جهازًا لتعقيم المياه بالأشعة فوق البنفسجية عام 1994، صُمّم خصيصًا ليُركّب في صهاريج المياه، قبل أن تسبق إحدى الشركات الأمريكية بإنتاج فكرة مشابهة على نطاق واسع.

رسالة إلى الجيل الجديد: الإبداع لا يعرف مستحيلًا

يوجه المخترع رسالة ملهمة إلى الشباب المبتكرين:

 “قد تُقابل الأفكار الجديدة بالاستهجان أو التشكيك، لكن لا ينبغي لذلك أن يكون سببًا للتراجع. فكل إنجاز عظيم بدأ بفكرة بدت مستحيلة أو غير مألوفة. الابتكار ليس ترفًا، بل ضرورة لبناء مستقبل أكثر أمانًا واستدامة. آمنوا بأنفسكم، وواصلوا الطريق رغم التحديات.”

“منقذ النخيل الإلكتروني” ليس مجرد اختراع تقني، بل دعوة لإعادة النظر في كيفية تعاملنا مع البيئة والزرع والغذاء. فالآن بفضله وجد النخيل مُعالجًا لآلامه، إنه تأكيد بليغ على أن الثروة الحقيقية تكمن في عقول المبدعين، لا في باطن الأرض. وربما آن الأوان أن تُوضع المبيدات السامة في متحف الذاكرة، وتُفسح الساحة لاختراعات تُحيي الحياة بدل أن تتسبب في موتها.

Similar Posts

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *