حوار— هاجر مصطفى إسماعيل.
في ظل التسارع المتزايد في مجالات البحث العلمي وتنامي تعقيدات الأسئلة المطروحة في الطب الحيوي، برز اسم الدكتور محمد لبيب سالم كواحد من أبرز العلماء العرب في مجالي المناعة والبيولوجيا الجزيئية. على امتداد مسيرة علمية انطلقت من جامعة طنطا وامتدت إلى جامعات مرموقة في اليابان والولايات المتحدة، رسخ مكانته بين رواد هذا التخصص الحيوي. في هذا الحوار الخاص مع «زويليون» يفتح لنا العالم المصري صندوق تجربته العلمية، ويتحدث بصراحة عن تحديات البحث، وفرص التغيير، ومستقبل المناعة في مواجهة السرطان والعلاقة بين العلم والأدب.
من هو الدكتور محمد لبيب سالم؟
أنا أستاذ علم المناعة بكلية العلوم جامعة طنطا، وقد تدرجت في الوظائف منذ تخرجي في عام 1984م من وظيفة معيد إلى مدرس مساعد، ثم مدرس، ثم أستاذ مساعد، ثم أستاذ في 2006م. درست الماجستير في كلية العلوم جامعة طنطا تخصص “تشريح مقارن”، وحصلت على درجة الدكتوراه بين جامعة طنطا وجامعة «كيوشو» في اليابان في الفترة من 1992م إلى 1995م، وكان موضوع البحث عن تأثير هرمونات منع الحمل على العدوى البكتيرية ودور الخلايا المناعية المختلفة. ثم سافرت إلى اليابان مرة أخرى في الفترة من 1997م إلى 2001م كباحث زائر في جامعة كيوشو لبدء أبحاثي عن العلاقة بين الخلايا المناعية والأورام، وبعد ذلك سافرت إلى أمريكا من 2001م إلى 2010م كأستاذ مساعد في كلية الطب ومعهد الأورام بالجامعة الطبية بكارولاينا الجنوبية، ثم عدت إلى مصر لأبدأ مشوار العودة بنجاح، والحمد لله حتى الآن.
بالإضافة إلى هذا التعريف العلمي، أحب أن أقدم نفسي أيضًا كقصصي وروائي وكاتب في الإعلام العلمي، وخاصة في تبسيط العلوم وربط العلم بالأدب. وحاليًا أنا عضو في اتحاد كتاب مصر.
لو شرحت لشخص غير متخصص ما هو تخصص علم المناعة، كيف ستبينه؟
ببساطة شديدة، الجهاز المناعي هو آلة شديدة الذكاء موزعة في الجسم بالكامل على هيئة جيوش منظمة للدفاع عن الجسم ضد أي عدو خارجي يقترب من الحدود، سواء كانت هذه الحدود ناحية الأنف، أو الدم، أو الجلد، أو الجهاز الهضمي، سواء من مدخله أو مخرجه، أي جميع حدود الجسم من الداخل والخارج. وهذا الجيش المناعي هو جيش دفاع ثم هجوم، يتعامل مع جميع الميكروبات الضارة بما فيها البكتيريا، والفيروسات، والطفيليات، والفطريات. وهذا الجهاز هو السبب في أننا نعيش بدون أي عدوى دون أن نشعر؛ فهو جيش مكوّن من الجيش الأول والجيش الثاني والجيش الثالث، ولكل جيش خلايا مناعية تقوم بوظائف محددة ومتكاملة ومتعاونة بحيث لا تضر أي خلية داخل الجسم، ويقع الضرر فقط على الخلايا أو الأجسام الغريبة.
لماذا اخترت تخصص علم المناعة والبيولوجيا الجزيئية من بين التخصصات الأخرى؟
اخترت تخصص علم المناعة في سنة 1990م بعد حصولي على درجة الماجستير، والتي كانت بعيدة كل البعد عن علم المناعة، ولكنها نفعتني فيما بعد أثناء دراستي لعلم المناعة. وكان السبب وراء اختياري أو تغييري من التشريح المقارن إلى علم المناعة هو حبي الشديد وانبهاري بهذا العلم الذي كان حديثًا وقتها في نهاية الثمانينيات، ولم يكن هناك متخصصون في جامعة طنطا في علم المناعة في هذا الوقت. وجدت هذا العلم يفسر الكثير من الظواهر البيولوجية في الصحة والمرض، خاصة أني وجدته جهازًا مختلفًا عن باقي الأجهزة، لأنه مكوّن من خلايا تجول في الجسم وتهاجر من مكان إلى مكان للبحث عن أي جسم غريب، مثلها مثل جنود الجيش، فأحببته، وأردت أن أتعرف على هذا الجهاز الفريد من نوعه، وأتعلم منه، وأفهم دوره في الصحة والمرض، وأؤسس مدرسة جديدة في هذا العلم في جامعة طنطا بالتحديد.
أما اختياري للبيولوجيا الجزيئية، فهو ليس كعلم في حد ذاته منفصل، ولكنه يخدم جميع العلوم، بما فيها علم المناعة، لفهم ماذا يحدث داخل الخلية، ليس فقط عدد الخلايا وأنواعها وهجرتها ووظيفتها ومنتجاتها، ولكن أيضًا كيف تتفاعل هذه الخلايا وتتعاون وتتكامل مع بعضها البعض بوسائل داخل الخلية، سواء داخل السيتوبلازم أو على سطح الخلية أو داخل النواة. وهذه هي الوظيفة الرائعة للبيولوجيا الجزيئية، التي تجعلنا نستكشف الجزيئات ودورها في وظائف الخلية.
ما الفارق بين العلاجات الكيميائية والإشعاعية والعلاجات المناعية المستخدمة في علاج الأورام؟
العلاجات المناعية هي تكنولوجيا حديثة بدأت تقريبًا في أوائل الألفية الثالثة، أي منذ حوالي ربع قرن، وبدأت على استحياء وبطريقة محددة، باستخدام أجسام مضادة يُعلّق بها العلاج الكيماوي، بحيث يتم استهداف الخلايا الورمية التي تحمل بروتينات محددة، تتعرف هذه الأجسام المضادة عليها، فعندما ترتبط الأجسام المضادة بهذه البروتينات على سطح الخلية الورمية، ينطلق العلاج الكيماوي من الجسم المضاد ويخترق سطح الخلية الورمية ويقضي عليها على الفور، دون أن يؤثر على الخلايا السليمة المجاورة للخلايا الورمية، مما يقلل من التأثيرات الجانبية الشديدة على الجسم التي نراها في حالة العلاج الكيماوي أو الإشعاعي.
وقد تطور العلاج المناعي من مجرد استهداف بروتينات بالأجسام المضادة المعلّق بها العلاجات الكيماوية، إلى الكشف عن بروتينات موجودة على الخلية الورمية تصيب وتشل الخلايا المناعية وتمنعها من العمل. وقد تم حديثًا تخليق طرق فعّالة لمنع عمل هذه البروتينات، وبالتالي ينجح الجهاز المناعي في الهجوم على الورم والتخلص منه. وكان وراء هذا الاكتشاف الكبير معامل بحثية كبيرة في العالم، وكان على رأسهم عالم من اليابان يُدعى «هونجو»، وعالم من أمريكا يُدعى «أليسون»، واللذان تقاسما جائزة نوبل عام 2018م لهذا الاكتشاف الكبير.
وتطور الأمر إلى هندسة الخلايا المناعية بطرق مختلفة لتكون قادرة على استهداف الخلايا السرطانية فقط دون أن تؤثر على الخلايا السليمة. ومن هنا نرى أن الفارق الجوهري بين العلاج الكيماوي والعلاج المناعي هو الاستهداف الدقيق للخلايا الورمية وموتها دون التأثير على الخلايا السليمة، مما يقلل من حدوث آثار أو مضاعفات جانبية، بالإضافة إلى أن العلاج المناعي يؤدي إلى تكوين مناعة تمنع عودة الورم مرة أخرى، على عكس العلاج الكيماوي الذي يتطلب تكرار الحقن مرات عديدة.
كيف ترى أبرز التطورات الجارية في ملف مكافحة السرطان؟
أبرز التطورات الحالية في ملف مكافحة السرطان هو استهداف البروتينات المسؤولة عن نمو وانتشار الورم. وقد اكتشف العلماء حديثًا العديد من هذه البروتينات، وتم تصنيع أجسام مضادة لمنع عملها، وكذلك تكوين علاجات مناعية ضد هذه البروتينات، واستهداف الخلايا الورمية بدقة شديدة دون التأثير على الخلايا السليمة، وكذلك التشخيص المبكر للأورام، بل والتنبؤ بالورم قبل حدوثه، خاصة الأورام المتعلقة أو المرتبطة بالعوامل الوراثية.
ما أبرز العوائق التي واجهتها كعالم وباحث داخل مصر؟
أبرز العوائق التي واجهتني كعالم داخل مصر هي البيئة العلمية. والمقصود بالبيئة العلمية هي عدم ثبات البيئة العلمية، وخاصة الطلاب الذين أقوم على تدريبهم لفترات طويلة، وبعد تدريبهم وبدء الاعتماد عليهم، يتركون المجموعة البحثية ويسافرون إلى الدول الأجنبية والعربية، أو يتم توظيفهم في أماكن أخرى في مصر، نظرًا للمرتبات التي يحصلون عليها، مقابل المكافآت البسيطة التي يحصلون عليها من المشروعات البحثية معي. ولذلك، فهذه هي المعضلة الكبيرة التي تقابلني وتواجهني كل عام عندما يتركني أحد طلابي. بالطبع، هذا إنجاز كبير لمدرستي العلمية، ولكنه يجعلني أعيد تدريب الطلاب الجدد كل مرة، مما يؤثر على وقتي ومجهودي والإنتاج العلمي.
ولكن ما زال طلابي الذين انتقلوا إلى أماكن أخرى يتعاونون معي بقدر المستطاع.
الأمر الآخر والمهم جدًا والذي يمثل عائقًا كبيرًا هو عدم توفر بعض الكيماويات التي تُصنع في الخارج، وتأخذ وقتًا طويلًا وإجراءات طويلة حتى يتم استيرادها.
كما أن هناك بعض المواد لا يمكن الحصول عليها، لعدم إمكانية استيرادها إما لسعرها المكلف، أو لعدم السماح بدخولها من خارج البلد المصنعة، وخاصة في حيوانات التجارب المهندسة وراثيًا، وكذلك الخلايا المهندسة وراثيًا.
ما مدى تأثير نقص التمويل البحثي على جودة وكفاءة الأبحاث؟
في الواقع، لم أشعر بنقص في التمويل البحثي على مستواي الشخصي، لأنني دائمًا أقدم على مشروعات بحثية، والحمد لله وفقنا الله، وحصلت على العديد من المشروعات البحثية في مصر من هيئة تمويل العلوم والتكنولوجيا والابتكار (سابقا: صندوق العلوم والتنمية التكنولوجية أو STDF)، وأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، وكذلك من جامعة طنطا، ومن وزارة البحث العلمي سابقًا، ومن إدارة المشروعات بوزارة التعليم العالي. مكنتني هذه المشروعات من إجراء البحوث، وإنشاء مركز التميز لأبحاث السرطان، وإنشاء معمل علم المناعة بكلية العلوم جامعة طنطا.
إلا أن هناك بعض الأبحاث التي تتطلب ميزانيات وإمكانات عالية، خارج نطاق المشروعات البحثية الممولة.
برأيك ما العوامل التي تعيق تحويل نتائج الأبحاث إلى تطبيقات علاجية ملموسة؟
أهم العوامل هو عدم وجود استراتيجية واضحة ومحددة من الجامعات ومن المراكز البحثية في تبني المخرجات البحثية وتحويلها إلى منتجات. فبالرغم من أنه من السهولة تسجيل براءات وابتكارات وحفظ الحقوق للمخرجات البحثية، إلا أن تحويلها إلى نماذج أولية ومنتجات ممكن تسويقها يحتاج إلى التعاون مع الصناعة، وهذا الأمر للأسف غير موجود بصورة فعالة.
كيف كانت تجربتك البحثية في اليابان وأمريكا؟ وما الفرق بين بيئة البحث هناك وداخل مصر؟
في الواقع، تجربتي في اليابان وكذلك في أمريكا كانت متميزة جدًا، وأشعر بأن كل تجربة كانت وراء جزء كبير من نجاحاتي العلمية.
في اليابان، تعلمت في زيارتي الأولي أساسيات علم المناعة، وفي زيارتي الثانية لليابان، تعلمت المناعة المتقدمة، فاستطعت في خلال خمس سنوات ونصف، وهي مدة دراستي في اليابان أثناء الدكتوراه وما بعد الدكتوراه، أن أفهم علم المناعة سواء الأساسيات أو المناعة المتقدمة. وبالطبع، ساعدتني هذه الخبرات كثيرًا أثناء عملي في أمريكا؛ حيث حدث تقدم كبير جدًا، ونقلة نوعية في أبحاثي في مجال المناعة والأورام، واستطعت أن أحصل على مشروعات بحثية، واستطعت أن أكون باحثًا متميزًا، وأكون مستقلًا علميًا (اIndependent)، بمعنى أن أكون لي معملي الخاص، ولي طلابي.
وطبعًا استطعت من خلاله تكوين مدرسة علمية واسعة ومتميزة، منها أني دعوت طلاب ماجستير ودكتوراه من مصر، حوالي خمسة، منهم ثلاثة أو أربعة من جامعة طنطا، لإجراء أبحاثهم في معملي في أمريكا، وكذلك دعوت بعض الزملاء إلى اليابان. وكانت تجربة علمية لمدة 15 سنة أو أكثر، في اليابان وأمريكا، جعلتني أُصنّف كعالم من علماء المناعة منذ 2002 طبقا لتصنيف جامعة ستانفورد.
وكانت هذه الفترة لها الفضل عليّ في أن أحصل على العديد من الجوائز العلمية، منها وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولي وجائزة الدولة التشجيعية، جائزة الدولة للتفوق، وجائزة الدولة التقديرية، وجائزة خليفة التربوية في البحث العلمي على مستوي الوطن العربي، وفي انشاء مركز التميز لأبحاث السرطان، ومعمل المناعة والبيولوجيا الجزيئية بكلية العلوم جامعة طنطا، وأشرف على العديد من طلابي، وأُكوّن مدرسة علمية متميزة بجامعة طنطا. ولولا سفري إلى اليابان وإلى أمريكا، أتصور كان من الصعب جدًا أن أكون في المستوى العلمي الحالي، ليس لسبب، إلا لأنها كانت فرصة لإتاحة البيئة العلمية والإمكانيات المعملية المتميزة، في وقت لم يكن علم المناعة في مصر متقدمًا.
حدثنا عن أحدث المشروعات البحثية التي تعمل عليها مؤخرًا..
في الواقع، حاليًا يوجد أربع مشروعات كبار ممولين من هيئة تمويل العلوم والتكنولوجيا والابتكار ومن أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، أحدهم مشروع بالتعاون مع مجموعة بحثية من أربع دول في الاتحاد الأوروبي، ومشروع بالتعاون مع جانب ألماني، ومشروع ممول من جامعة طنطا. المشروعات جميعها عن المناعة ودور الخلايا المناعية في الأورام، كيفية هروب الورم من الخلايا المناعية، وكيفية جعل الخلايا المناعية أكثر قوة في التعامل مع الورم، وتطوير علاجات مناعية جديدة لم تُسبق في مصر أو الشرق الأوسط.
في هذه الحالة، نأخذ الخلايا ونتعامل معها خارج الجسم، ويتم التعامل معها بمواد محددة، وأوقات محددة، وبطريقة محددة. استطعنا في مركز التميز لأبحاث السرطان وفي كلية العلوم أن نجعل الخلايا المناعية الضعيفة الموجودة في البيئة الورمية تصبح قوية وفعالة، وقادرة على إفراز مواد تحلل الورم وتقضي عليه، وقد توصلنا إلى نتائج متميزة.
أحد المشروعات الأخرى، نبحث فيه عن خلايا معينة وجدنا أنها مسؤولة عن تثبيط ووقف نشاط الخلايا المناعية المضادة للورم، تعرفنا عليها وبدأنا نتعاون مع الجانب الأوروبي المكوّن من خمس معامل في فرنسا وألمانيا والنرويج وإسبانيا للوصول إلى طريقة يمكن استخدامها عالميًا في التعرف على هذه الخلايا، للتنبؤ بمدى الاستجابة للعلاج الكيماوي والعلاج المناعي، وأيضًا لتوقع تطور الورم.
هناك مشروع آخر نقوم فيه بتكوين خلايا مناعية بطريقة جديدة، سيتم الإفصاح عنها لاحقًا، لتحويلها إلى خلايا مناعية قوية يمكن استخدامها لعلاج مرضى السرطان، وخاصة سرطان اللوكيميا والأنف وأي سرطانات الدم.
هناك مشروع آخر نستخدم فيه اللقاح الفيروسي الخاص بكوفيد-19 أو كورونا في معالجة الورم، وحقق نتائج جيدة الحمد لله، لكن ما زال بحاجة إلى وقت للإفصاح عنه ونشره.
ومشروع آخر ندرس فيه شيخوخة الخلايا المناعية، والفرق بين الخلايا المناعية في الأعمار المتقدمة التي تتمتع بصحة جيدة، مقابل الأعمار الصغيرة أو الكبيرة التي لا تتمتع بصحة جيدة، ومن هنا نستطيع أن نستخدم الخلايا المناعية كمؤشر أو كدلائل خلوية نتنبأ بها بصحة المريض قبل تقدمه في السن.
وهناك مشروع آخر نبحث فيه عن مواد جديدة تستهدف الخلايا الورمية وتُنشّط الخلايا المناعية كعلاجات كيماوية ضد الورم، والحمد لله حصلنا على نتائج واعدة، ونحن في سبيل نشرها إن شاء الله.
ويشارك في هذه الأبحاث والمشروعات طلاب ماجستير، وطلاب دكتوراه، ومعيدون، ومدرسون مساعدين، وأعضاء هيئة تدريس سواء من جامعة طنطا أو من خارجها، ومن المركز القومي للبحوث، ومن جامعة هيروشيما باليابان، بالإضافة إلى الجامعات في الاتحاد الأوروبي، وكذلك الجامعة المصرية اليابانية.
كونك أديبًا بجانب كونك عالمًا، فكيف أفادك الأدب في الإبانة عن خبايا العلوم؟
في الواقع، الأدب يجعل العقل لطيفًا، ويمنحه خيالًا علميًا واسعًا جدًا، ويرفع التفكير العلمي ويجعله يحلق في السماء. فأنا أرى أن الأدب يحوّل العالم إلى مفكر عميق، ويمنحه القدرة على الخروج خارج حدود العلم، لاستنباط علاقات جديدة من الخيال، وتحويلها إلى واقع، وكذلك يأخذ من الواقع ويربطه بالخيال ليعود به إلى الواقع مرة أخرى.
فالأدب هو الحبل السري الذي يربط بين الخيال العلمي والواقع العلمي. وبدون الأدب يستطيع الإنسان أن يكون عالمًا، وعالمًا جيدًا، ولكن بالأدب يستطيع أن يكون عالمًا متميزًا من نوع خاص؛ لأن العالم إذا استطاع أن يستخدم الأدب في توصيل ووصف العلم بأسلوب أدبي، يستطيع أن يغوص في المعلومة أكثر وأكثر، ويستنبط منها روح المعلومة وما وراءها، وهذا ما يمتلكه فقط العالم المتأدب.

كيف ترى دور الجامعات في غرس الاهتمام بالبحث العلمي في نفوس الطلاب؟
في الواقع، أرى أن الجامعات لها دور كبير جدًا في غرس الاهتمام بالبحث العلمي في نفوس الطلاب، وده موجود بالفعل. ولم يكن هذا النهج موجودا في سنوات سابقة، لكن بدأ ينتشر ويتأصل منذ عشر سنوات مضت، أدي إلى اهتمام الطلاب بالبحث العلمي من خلال مبادرات بحثية ممولة من الجامعات. فأصبح هناك مبادرات وبرامج متميزة جدًا للبحث العلمي عند الطلاب، وهذا أدى بدوره إلى قيام الطلاب بنشر أبحاثًا علمية.
ونحن في جامعة طنطا لدينا مبادرة الـ «URI»، وهي للطلاب ما قبل التخرج، وأنا كنت من أحد مؤسسيها ومشجعيها، وتركتها للطلاب ليقودوها بأنفسهم، وأصبحت متميزة جدًا على مستوى مصر. كذلك، أنا حاليًا رائد الجمعية العلمية لطلاب كلية العلوم، وهم يعملون بحثًا علميًا، وندربهم على أساسيات البحث العلمي.
وحاليًا معي مجموعات من الطلاب اشتركوا معي في كتابة أبحاث علمية ونشرها، وأكثر من ذلك، اشتركوا معي في مشروعات بحثية، وكتابة فصول في كتب؛ أحدها عن الخلايا الجذعية، وآخر عن اللوكيميا، وتم بالفعل نشرهم، وآخر عن الصيام ودوره في المناعة، وتم نشره أيضًا.
فأصبحت البيئة جاذبة جدًا للطلاب، سواء من قبل الأساتذة أنفسهم، أو من قبل الجامعة، أو من قبل الطلاب أنفسهم.
وقد خصصت أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا مشروعات بحثية فقط للطلاب ما قبل التخرج، وكذلك صندوق العلوم والتنمية التكنولوجية خصص مشروعات لطلاب الماجستير والدكتوراه، وجامعة طنطا مثل باقي الجامعات خصصت من خلال نادي العلوم مشروعات للطلاب.
فالدعم المالي للطلاب أصبح موجودًا، وهذا على عكس وقت قريب حيث لم يكن هذا متوفرًا على الإطلاق. بالإضافة إلى أن انخراط الطالب في البحث العلمي أصبح متواجدًا بقوة.
من جانبي ما أتمناه هو أن يقوم الطالب بإجراء بحث علمي الزامي قبل التخرج على أن يكون مقرر امتحاني، وليس مجرد هواية أو شغف لقلة من الطلاب، بل يكون عليه درجة فعلية، مقرر بحث علمي فعلي. صحيح أن هناك مادة مقال وبحث لطلاب الفرقة الرابعة، ولكنه في الغالب يكون نظريا، ولذلك اقترح أن يقوم الطالب بإجراء بحث علمي بنفسه بدا من العام الأول، ويُقيّم عليه، على أن يكون جزءً من متطلبات التخرج.
النظرة المجتمعية لمصطلح كليات القمة خلقت كثيرًا من الإشكاليات في نظرة الطلاب تجاه كلية العلوم، ما توجيهك لعلاج ذلك؟
بالفعل، مصطلح كليات القمة مصطلح قديم، ويُفترض أن نتخلص منه، ولا يوجد هذا المصطلح إلا في مصر فقط، ونشأ خلال العصور القديمة، التي كانت الوظائف فيها تعتمد في المقام الأول على الطب والهندسة والتدريس.
أما حاليًا، فوظائف المستقبل أصبحت متنوعة وجاذبة جدًا، ولا تعتمد على الطب ولا على الهندسة، ولكن تعتمد على التفكير العلمي والبحث العلمي.
وبالعكس، أنا أرى أن طالب الطب، وطالب الهندسة، وطالب الزراعة، وكل طلاب الكليات العملية وغير العملية، بما فيها الكليات الإنسانية مثل الآداب والتجارة والتربية، يجب أن يتعلموا بعمق البحث العلمي والتفكير العلمي والتفكير النقدي والإبداعي؛ لأنه هو المطلوب في النهاية في أي مجال.
وهو الذي يؤدي إلى البراءات والابتكارات التي تحتاجها الدولة، وليس مجرد الوظائف التقليدية التي من الممكن أن يقوم بها أي شخص، لكن الابتكار لا يقدر عليه إلا المتميزون. ومع أن الدولة تحاول بجدية تخطي مصطلح كليات القمة من خلال انشاء برامج بتخصصات جديدة، إلا أن عقلية الطالب والأسرة المصرية للأسف ما زالت متمسكة بهذه المصطلحات التي لم يعد لها وجود كبير.
خاصة أن هذه الكليات تأخذ سنوات طويلة ومكلفة جدًا، والعائد لم يعد مثل السابق. ودخول الذكاء الاصطناعي قلل من دور الإنسان في الطب والهندسة والزراعة، وبالتالي يجب التركيز على البحث العلمي في كل المجالات، وربطه بالذكاء الاصطناعي، وتكنولوجيا إنترنت الأشياء.
ومن خلال هذا، يستطيع الإنسان أن يقفز قفزات كبيرة جدًا، وعندما يقفز الإنسان، تقفز الدولة معه، والعكس صحيح.
لو وسعك تقديم بعض النصائح للباحثين الشباب ماذا ستكون؟
نصيحتي للشباب هي إدارة الوقت، والبعد عن أي أنشطة تُسطّح الذهن، لأن الإنسان لا يملك إلا عقله. وعقله غني جدًا، ويجب أن يُوظّف، والعقل هو مفتاح النجاح.
فإذا تم استثماره بالطريقة المناسبة، بالقراءة المتعمقة وليست السطحية، بالتفكير العلمي والإبداعي، سيتحول العقل رويدًا رويدًا، وبسرعة، إلى عقل مبدع ومنتج ومفكر ومحلل، ويستطيع أن يفكر خارج الصندوق، سواء في الأنشطة التجارية، أو العلمية، أو الطبية، أو الهندسية، أو الزراعية، أو الأدبية، أو غيرها.
فعلى الشباب أن يستثمر وقته استثمارًا دقيقًا جدًا، ولا ينساق وراء وسائل التواصل الاجتماعي، بل يستخدمها لإظهار نفسه، لإظهار إنتاجه، لإظهار فكره، وللاستفادة من الآخرين.
أما من لا يريد أن يتميز، فسوف تأخذه وسائل التواصل الاجتماعي.
فيا شباب! الوقت، الوقت، إدارة الوقت، إدارة الوقت، إدارة الوقت، وإدارة العقل، إدارة العقل، إدارة العقل.
وأنصح الشباب بالتعامل مع المتميزين، ومع من حققوا نجاحات، والتعلم منهم، والاقتراب منهم. ليس لمحاكاتهم أو تقليدهم، ولكن للاستفادة منهم، لأن الخبرات يمكن أن توفر على الإنسان عشرات السنين، خاصة الخبرات المستمدة من المتميزين الذين حققوا نجاحات ملموسة تُقاس على أرض الواقع، وليس مجرد نجاحات كلامية أو شفوية.
لو كان لديك قرار لتطوير البحث العلمي في مصر، مما يجعلها بيئة حاضنة لجهود علمائها، ماذا سيكون؟
لو كنت متخذا قرارا فالقرار هو أن يكون البحث العلمي مستقلًا تمامًا عن أي جامعة أو وزارة، ويكون له ميزانية عالية جدًا. والاستقلال هنا ليس للباحثين، بل لإدارة البحث العلمي. يجب أن تكون إدارة البحث العلمي مستقلة تمامًا عن الدراسات العليا، وعن خدمة المجتمع، وعن الجامعة.
يعني تكون تابعة للجامعة من حيث الكيان، ولكن من يقوم بالبحث العلمي يكون متفرغًا تمامًا، ويتدرب على البحث العلمي لمدة سنتين على الأقل، خاصة شباب الباحثين.
ويجب أن نجذب العلماء الغرب من الخارج إلى الداخل، ليعملوا بجانب العلماء المصريين، ووسط شباب الباحثين المصريين.
الأمر الآخر هو اتخاذ قرار فوري بتقليل الإجراءات الروتينية التي يحتاجها الباحث لشراء الكيماويات والمواد المطلوبة للبحث العلمي. يجب إلغاء هذه الإجراءات التي تؤدي إلى أوقات طويلة جدًا في الحصول عليها.
قرار آخر هو فتح الباب لعمل اتفاقيات دولية لتوفير كل المواد المطلوبة للباحثين في مصر وكذلك توفير معامل على أعلى مستوى، من خلال دعم المراكز البحثية، بحيث يكون في كل كلية مركز بحثي متميز يحقق الخطة البحثية.
الأمر الأخير هو منع البحث العلمي غير الممول بمشروعات بحثية، لأن هذا يؤدي إلى ضعف مصداقية النتائج، ويجعل الشركات والعالم الغربي لا يثقون في البحث العلمي؛ لأنه عندما يُنشر بحث ولا يُذكر فيه أنه ممول من مشروع بحثي محدد، تبدأ الجهات في التشكيك فيه أو التقليل من قيمته، على عكس الأبحاث الممولة التي تُحترم وتُعتمد.
وهذا الأمر يتطلب رفع ميزانية البحث العلمي، حتى يحصل فقط الجادون على التمويل، ويُنفذوا استراتيجية الدولة في البحث العلمي المنتج الفعال، الذي يؤدي إلى ابتكارات، وليس مجرد النشر الدولي.
ولو قلَ عدد الأبحاث، ولكن زادت نوعيتها، فسيكون هذا أفضل كثيرًا لمصر من مجرد زيادة الكم دون الكيف.



